منهج ومذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان -كما هو في أبواب العقيدة- فهم يعتمدون على نصوص الكتاب والسنة، ولا يردون شيئاً منها قط، فيجمعون بين النصوص ويؤمنون بها جميعاً، ويعملون بها جميعاً.
  1. ذكر المعاني التي تطلق على الإيمان

    إذا تأملنا معنى الإيمان وحقيقته عند أهل السنة والجماعة، فسنجد أن له إطلاقين في غالب النصوص:
    الإطلاق الأول: الإيمان بمعنى الدين، وكلمة الدين تشمل مراتب الإيمان كلها: الإسلام والإيمان والإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام -وقد سبق شرحه- الذي رواه الإمام مسلم في أول صحيحه عن عمر، ورواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة في كتاب الإيمان مع اختلاف في بعض ألفاظه قال في آخره: {يا عمر ! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}، فكلمة دينكم تشمل المراتب الثلاث التي سأل عنها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم {أخبرني عن الإسلام}، {أخبرني عن الإيمان}، {أخبرني عن الإحسان} فهذه المسائل الثلاث هي الدين الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ))[آل عمران:19]، والإيمان بهذا المعنى هو الذي جاء في قوله تعالى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ))[المائدة:5] أي: من يكفر بدين الإسلام فقد حبط عمله، فدين محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه هو ما جاء في الكتاب والسنة جميعاً، ويدخل في ذلك شعب الإيمان الظاهرة منها والباطنة، وبما سبق يتبين لنا أن الإيمان يأتي بمعنى الدين.
    والإطلاق الآخر للإيمان أنه مرتبة من مراتب الدين كما في حديث جبريل، والدليل على ذلك أنه غاير بين الإسلام والإيمان، والقاعدة تقول: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا)، فالإيمان كما في حديث جبريل عليه السلام مرتبة أعلى من الإسلام، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بقوله: {أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت}، وهي أعمال متعلقة بالجوارح، وفسر الإيمان بقوله: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره} وهي أعمال اعتقادية متعلقة بالقلب.
    وهذا يدل على أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا؛ فيكون الإيمان بمعنى الأعمال الباطنة، والإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة. فالأعمال الظاهرة هي التي تضمنها قول الطحاوي: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين]؛ لأنه يرى الإيمان والإسلام مترادفين، ولنا اعتراض على هذا الرأي، وذلك واضح من حديث أنس وحديث ابن عمر، أما حديث أنس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم؛ له ما لنا وعليه ما علينا} فالأعمال الواردة في الحديث أعمال ظاهرة، وأما حديث ابن عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}، والأعمال الواردة في الحديث أعمال ظاهرة أيضاً، فيثبت للمرء حكم الإسلام إذا أتى بهذه الأعمال الظاهرة.
    ونستفيد من حديث جبريل السابق أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، والإحسان أعلى درجة من الإيمان والإسلام، وقد جاء ذلك صريحاً في كتاب الله، قال الله تعالى: ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا))[الحجرات:14] فالأعراب كانوا حديثي عهدٍ بإسلام، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: آمنا، وكأنهم يريدون أن يقولوا: نحن مثل السابقين الأولين، فلم يقرهم الله سبحانه وتعلى على دعوى الإيمان ولم ينف عنهم الإسلام، بل لم ينف عنهم قرب دخول الإيمان : ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] فإذا قلت: لم يدخل محمد البيت، فغاية ما يدل عليه هذا الشيء أنه لم يقع الفعل، فإذا قلت: لما يدخل محمد البيت، دل ذلك على قرب الدخول، فهو متوقع ولكنه إلى الآن لم يقع.
    فالشاهد أن الإسلام يطلق على وجهين: اسم مدح يطلق على المؤمن والمسلم في مقابلة الكافر، وأما بالنسبة لأهل القبلة فليس بمدح، أما الإيمان فهو اسم مدح؛ لأن معنى ذلك أن صاحبه مبتعد عن ارتكاب الكبائر.
  2. تعليق دخول الجنة على الإيمان وبيان تلازمه مع الأعمال الظاهرة

    هنا قاعدة عظيمة وهي: أن الله قصر دخول الجنة على من اتصف بصفة الإيمان، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:1-3] وقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ))[التين:6] وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا))[الكهف:107]، وغيرها من الآيات، وفي الحديث الصحيح: {إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة} فعلق دخول الجنة على وصف أخص من مجرد الإسلام وهو الإيمان؛ لأنه مرتبة أعلى.
    وقد يأتي الإيمان بمعنى الدين، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين : {الإيمان بضع وستون، أو قال: بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فالإيمان في هذا الحديث وأمثاله يشمل الدين كله، لأن شهادة أن لا إله إلا الله التي ذكرت في حديث جبريل وفي حديث ابن عمر مذكورة في هذا الحديث أنها أعلى شعبة من شعب الإيمان: (أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله)، ولا يتوهم متوهم أن هناك تعارضاً بين القولين؛ لأنه ليس المقصود في حديث جبريل عليه السلام أن المسلم هو من شهد الشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت، وأتى بهذه الأعمال الظاهرة دون أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر...
    وكذلك ليس المقصود أن المؤمن هو من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، دون أن يأتي بعمل ظاهر من صلاة وزكاة وصيام وغيرها؛ ففي حديث شعب الإيمان نجد أن شهادة أن لا إله إلا الله هي أعلاها، ومعنى ذلك أن هذه الشعبة تستلزم الإيمان الباطن والظاهر، فإذا قالها المرء بلسانه أخذ حكم المسلمين، وأما إذا حققها بقلبه، وذلك بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر واعتقد حقيقتها؛ فقد حقق الإيمان الباطن.
    فبمجرد أن يقول المرء: أشهد أن لا إله إلا الله يكون له ما للمسلمين حتى لو كان في أرض المعركة؛ كما في حديث أسامة، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: {أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟!}.
    وشعب الإيمان أهلها متفاوتون فيها؛ لأنها متعلقة بإيمان القلب وإيمان الجوارح معاً، ومعنى ذلك أن أهل (لا إله إلا الله) متفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، ولهذا أكدت الأحاديث على قضية تصديق القلب واللسان، كما في الحديث الصحيح {من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}، {من قال: لا إله إلا الله؛ يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه}، : {أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. من قالها غير شاك...}؛ فهذه الأحاديث تبين أن التلفظ بالشهادتين لابد أن يلازمه اليقين والاعتقاد الجازم دون أي شك، وهذه أعمال قلبية علق دخول الجنة عليها.
    أما أحكام الإسلام فإنها تجرى على كل من أظهر الإسلام؛ إذ لا تفاوت بين الناس في الأحكام الظاهرة؛ فلو جاءنا كبير من كبار المنافقين لكنه مظهر للإسلام، وجاءنا رجل من أفاضل المؤمنين وخيارهم؛ فإننا نجري عليهما الأحكام الظاهرة ونعاملهما سواء، فكل منهما له حق الإسلام في الظاهر، وإن كان من علمنا إيمانه نحبه أكثر؛ لكن القصد من حيث إجراء الأحكام الظاهرة، أما ثوابهما عند الله تعالى وموضعهما من الجنة فبينهما فرق كبير، فلا يستوي من يقول: (لا إله إلا الله) بلسانه، مع من يقولها موقناً غير شاك، يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه، فالأخير على درجة عالية عظيمة من الإيمان، بخلاف الأول.
    وصاحب البطاقة توضع بطاقته التي تحمل لا إله إلا الله في كفة، وتوضع التسعة والتسعون سجلاً من الذنوب والمعاصي في كفة؛ فترجح كفة لا إله إلا الله، فهذه الكفة لم ترجح لمجرد أن فيها كلمة قيلت، ولو كان الأمر كذلك لكان لكل من يقول: (لا إله إلا الله) أن يرتكب ما يشاء من الذنوب والموبقات، وتظل كفة حسناته راجحة على سيئاته، وليس الأمر كذلك.
    وصاحب البطاقة أمره عجيب، وحالته لم تكن عادية؛ فإنه من الصعب أن تشهد أن لا إله إلا الله بيقين وبصدق وبإخلاص، ومع ذلك ترتكب تلك الموبقات البالغة تسعة وتسعين سجلاً؛ فهذا الحديث يبين لنا فضل شهادة أن لا إله إلا الله، وأهمية التوحيد وأنه يكفر الذنوب، وقد بوب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في كتاب التوحيد باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
  3. تعريف علماء السلف للإيمان بأنه قول وعمل

    الأمر الذي أحب أن أنبه إليه: أنه سيكون كل كلامنا في الإيمان بمعنى الدين، فنقول: بم عرف أهل السنة والجماعة الإيمان؟
    المتأمل لكتب السلف مثل كتاب الإيمان للإمام أحمد، وكتاب اللالكائي، وكتاب السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب السنة لـابن أبي عاصم يجدهم يقولون: "اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل"، وهذا هو تعريف السلف للإيمان كما ذكر ذلك الإمام أحمد وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي في عقائدهم ونصوا عليه، وقال الإمام البخاري رحمه الله: "رويت عن أكثر من ألف شيخ من أهل العلم، ولم أرو إلا عمن يقول: الإيمان قول وعمل"، فهؤلاء ألف شيخ لقيهم الإمام البخاري، وكلهم يعتقد أن الإيمان قول وعمل، فهناك إذن إجماع، والإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله نقل -كما في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية- أكثر من مائتي عالم من علماء التابعين وأتباع التابعين في الكوفة وما حولها؛ اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وكل من كتب في العقيدة يذكر ذلك.
    وذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله أن هذا مذهب الإمام الشافعي الذي ذكره في كتابه الأم في باب النية، وذكر هناك أن الإجماع منعقد عند السلف على أن الإيمان قول وعمل، وقول السلف أن الإيمان قول وعمل لا يعني أنهم أغفلوا عمل القلب، ولكن مقصود السلف من قولهم: (الإيمان قول وعمل) أن القول قولان: قول اللسان وقول القلب، والعمل عملان: عمل القلب وعمل الجوارح؛ فهذه أربع يستحيل أن تجد شعبة من شعب الإيمان إلا وهي داخلة فيها، فإن قال: لا إله إلا الله أو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، فهذا من قول اللسان، وإن كان خائفاً، خاشعاً، متقياً، مصدقاً، راغباً، راهباً، متوكلاً، صابراً، موقناً؛ فهذا من عمل القلب، وإن كان مقراً ممتثلاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، معتقداً أنه حق؛ فهذا قول القلب.
    ولا يمكن أن يخرج عمل من أعمال الجوارح عما تقدم.
    والصلاة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] نجد الإيمان الذي هو الدين موجوداً فيها، فالصلاة قول وعمل، فهي أعمال ظاهرة، وقول باللسان، وقول بالقلب الذي هو النية والامتثال، وعمل بالقلب الذي هو الخشوع والطمأنينة.
    وفي تعريف الإيمان مسألة يلزم التنبيه إليها وهي: أنه ليس مقصود السلف الذين قالوا: "الإيمان قول وعمل ونية"، أن كلمة قول وعمل تعني مجرد قول اللسان وعمل الجوارح فحسب، ولكن مقصودهم التأكيد على أهمية النية، وبعضهم يقول أيضاً: "قول وعمل وتصديق" لأهمية التصديق، وبعضهم يقول: "قول وعمل وإخلاص" لأهمية الإخلاص، فهم لم يكونوا يلتزمون في تعاريفهم بالدقة المنطقية، إنما كانوا يعرفون الإيمان ويزيدون ما يرون أهميته، والأصل أن الإجماع عندهم منعقد على أن الإيمان هيئة مجتمعة من هذه الأربع؛ كما عبر شيخ الإسلام رحمه الله بذلك؛ فهو يعبر بالتعبير المتداول في عصره كما نعبر نحن بالتعبيرات المتداولة في عصرنا، فالإيمان هيئة مجتمعة من هذه الأربع.